من الواضح أن النظام الحاكم-بكامل مؤسساته وهيئاته- قد وصل في احتياله علي المواطنين وحقوقهم ومصالحهم من مستوي الاحتراف إلي إتلاف النفس وتكوين أنا وهمية خادعة، في نفس الوقت الذي تركت فيه معظم فئات الشعب المنتهكة حريتها وكرامتها ساحة الصراع مع السلطة علي الحقوق الدستورية خالية إلا من نفر قليل مازال يدافع عن حقوق جموع المتفرجين من خارج الخطوط حيث ينتظرون وقوع أقرب الأجلين: ما تسفر عنه عمليات النصب والتزوير وخداع الذات، أو قضاء الله وقدره.
هذه الجموع الخائفة والمتوجسة من تبعات مشاركتها في الدفاع عن حقوقها المهدرة ومصالحها الضائعة تحت ذرائع مختلفة- الأمن المركزي، فرق البلطجة الرسمية، المعتقلات- دفعت وستدفع ثمنا باهظا من حياتها وحياة أبنائها وأحفادها ومستقبل الوطن انتظارا لوهم طال ترقبه عن حياة حرة كريمة ومسكن بسيط آمن وفرصة عمل شريف ولقمة عيش خالية من العفن والسموم، وشربة ماء غير ملوثة، ولكن هيهات..هيهات لما ينتظرون!.
وعندما خرجت الجماعات المهنية - تحت ضغط الظروف المعيشية القاسية- من عمال ومدرسين وأطباء وأساتذة جامعات في احتجاجات واعتصامات وتظاهرات تطالب بحقوقها المهنية في أجر عادل يحفظ لها ماء وجهها ويغنيها عن الحاجة وذل السؤال اخترعت حكومة لجنة السياسات الوكيل الحصري لصندوق النقد والبنك الدوليين إلي ثلاث صيغ للتعامل مع مطالب الحركات المهنية المتنامية في أوساط المجتمع المصري هي:
أولا: الكادر الخاص
ثانيا: ربط الدخل بمشروعات الجودة
ثالثا: تسليم جزئي بالفتات لأصحاب الحقوق
استخدمت الصيغة الأولي أو الثانية منفردة لاستنامة بعض الجماعات المهنية، وجمعت بين الصيغيتين مع فئات أخري، أما الصيغة الثالثة فاستخدمتها للتعامل مع مطالب الكادحين الذين يرضون بأقل القليل وبالفتات الملقي إليهم بعد تفاوض مضن وشاق مع الأمن، فالنظام يستخدم الصيغة وفق معطيات محددة هي: حجم القوة المطلبية وتأثيرها، والكلفة المادية للمطالب المهنية، والقاسم المشترك بين هذه الصيغ هو الالتفاف والمماطلة والتسويف لسلب حقوق وممتلكات جميع فئات الشعب وتجييرها لصالح طبقة رجال الرأسمالية الطفيلية الجشعة (الأوليجاركا) لمراكمة الثروة في أيديهم وأرصدة الموالين وأتباع مؤسسات النظام الحاكم.
وفي هذا المقال نلقي الضوء علي صيغة واحدة هي صيغة الكادر الخاص للمعلمين باعتبارها الصيغة التي نزلت علي الواقع وثبت بالدليل القاطع من خلال متابعة الإجراءات وآليات التنفيذ أنها ليست إلا صيغة من صيغ التحايل واستنزاف وقت وجهد المعلمين في قضايا مطلبية جزئية للتغطية علي عمليات النهب والتجريف العشوائي والمنظم لثروات البلاد العقارية والنفطية واستكمال الإجهاز علي الصناعة الوطنية التي بنيت علي أكتاف الشرفاء وبأموال الشعب المصري.
ومنذ طرح فكرة الكادر الخاص للمعلمين دعاية لانتخابات الرئاسة وتصريحات وزير التعليم المتثيرة للغضب لا تتوقف، وتنكأ كل يوم جرحا جديدا، فكل مرة يستبعد فئة من تطبيق الكادر الخاص عليهم، ومرة تالية يستثني فئات وشرائح من الكادر، ثم يقسم الكادر إلي مرحلتين، ومرة ثالثة ورابعة يربط بين المرحلة الثانية من الكادر واجتياز اختبارات للمعلمين لتحديد أعداد المستفيدين ونسبة الزيادة، وفي تصريحه الأخير يقول الوزير " إن وزارته تواجه تحديات في أعداد المعلمين الذين يتجاوزون مليوناً ومائتي ألف معلم، ويحتاجون إلي فرق مؤهلة لتدريبهم علي جودة التعليم، وكأن وزير التعليم لم يكن يعرف أعداد المعلمين أو أن متطلبات الكادر الخاص سقطت عليه بالوحي !
والغريب أن الوزير قال بملء فيه إن اختبارات الكادر غير ملزمة، وأن المدرس الذي سيتجاوز الاختبار ستتراوح زيادة مرتبه بين 50 % و150% من الأساسي، فأي جودة تلك التي لايلتزم جميع المعلمين بالمشاركة فيها ؟ أهي جودة أوراق مزركشة بالألوان تحفظ في أرشيف تحنيط الوزارة؟!
في الاختبارات التي عقدتها الوزارة للمعلمين وصلت نسبة الرسوب في بعض الإدارات إلي 100% ومنها إدارة الساحل التعليمية- علي سبيل المثال- حيث كانت نتيجة اختبار الكادر صفرا " لم ينجح أحد "، وهكذا في معظم الإدارات التعليمية، ولم ينج من مقصلة الاختبار سوي عدد محدود جدا، أما بقية المعلمين الذين يخفقون في اختبار الكادر فعليهم الالتحاق بالأكاديمية المهنية للمعلمين لتدريبهم علي الطريقة المثلي لحل أسئلة الكادر!!.. منتهي الإهانة والاحتقار للمعلمين وشهادة فشل دامغة لوزارة تعليم متخلفة وفاسدة، وطريقة خبيثة لتوزيع المنح والعطايا علي المرضي عنهم في الأكاديمية وملحقاتها، أليس كذلك؟ ونحن نتساءل: أين مقر هذه الأكاديمية المهنية؟ وما مستوي الكوادر المؤهلة للتدريس بها؟ وما تكاليف الدراسة بها ؟ وكيف يترك المعلمون الدراسة للالتحاق بها ؟ أم أن المسألة برمتها شعارات وعبارات جوفاء وبضعة ملايين " ترش " علي الأحباب لزوم اللازم لطمس العيون وإفساد ما بقي من ضمير؟
إن خطاب السيد وزير التعليم وتصريحاته بقدر ما يثير من المرارة لافتقاده إلي المنطق والحصافة ، بقدر ما يبعث علي التهكم والسخرية من وزارة مهمتها الأساسية التعليم في نظام يصدر التصريحات والوعود بلا فهم أو وعي أو دراسة علمية، ثم يكتشف فجأة أثناء التطبيق أن المخرج الوحيد من نفق التصريحات المتناقضة وإسهال الوعود الرسمية الكذب ثم الكذب ثم الكذب، فما يعرض علي المعلمين ليس كادرا خاصا وإنما مشروع تلقيم المعلمين سد الحنك <