أحمد عثمان - الشرق الأوسط العدد 8636 –21/7/2002 :
اختلف رجال الآثار حول الزمان و المكان اللذين عاش فيهما الملك سليمان (ابن داود) ، فبينما تقول القصة التوراتية إنه عاش في بداية القرن العاشر قبل الميلاد ، تبين أن الاستحكامات و البنايات التي نسبت إليه ترجع إلى تاريخ آخر . و بينما حاول بعض الباحثين الذين اجتمعوا في المتحف البريطاني بلندن في 29 حزيران ( يونيو) 2002 ، للتعرف على طرق قوافل البخور في جزيرة العرب ، تحديد عصر ملكة سبأ ليتفق مع عصر سليمان منذ ثلاثة آلاف سنة ، نفى آخرون وجود سليمان في تلك الفترة .
القرآن الكريم ، لم يذكر شيئاً عن الزمان الذي عاش فيه الملك سليمان ، الذي وردت قصته في سور (الأنبياء) و (النمل) و (سبأ) و (ص) ، و لا عن حجم مملكته أو مكانها ، لكن الروايات التوراتية تذهب إلى أن سليمان عاش خلال النصف الأول من القرن العاشر قبل الميلاد . و بحسب ما جاء في سفر الملوك الأول التوراتي ، فإن سليمان كان "متسلطاً على جميع الممالك من النهر (الفرات) إلى أرض فلسطين و إلى تخوم مصر ، حيث كانوا يقدّمون الهدايا و يخدمون سليمان كل أيام حياته" .
و خلال الملتقى المنعقد في المتحف البريطاني ، فاجأ (جوناثان طاب) ، رئيس قسم آثار الشرق الأدنى في المتحف ، المؤتمرين بقوله : "لما كان العرف قد جرى على اعتبار حكم سليمان في القرن العاشر قبل الميلاد ، فقد جرى تحديد تاريخ ملكة سبأ في نفس ذلك الوقت . و الآن يحاول الباحثون الذين يقبلون بتحديد وقت معين لحكم سليمان ، البحث عن حكم (مملكة) سبأ التوراتية ، و العثور على مملكة مناسبة في اليمن تصلح (لهذا الغرض) في القرن العاشر .. إلا أن آثار بلاد الشام خلال السنوات العشرين الماضية تقريبا ، لم تتوقف عند الشك في تاريخية سليمان نفسه كحاكم مهم في بداية تاريخ "إسرائيل" ، بل إنها تتعارض مع حقيقة وجود مملكة "إسرائيل 1" المتحدة نفسها ، بالشكل الذي قدم في الرواية التوراتية" .
و تابع (طاب) إن البقايا الأثرية التي تنسب عادة إلى سليمان ، عبارة عن "مجموعة من البنايات الأثرية ، بنايات عامة أو قصور في مجدّو ، أبرزها أربع بوابات ضخمة مدعمة تتبعها أسوار محصنة للمدينة ، عثر عليها في مجدّو و حازورة و جيزر . و لمجرد أن هذه الآثار حدّد لها تاريخ في القرن العاشر ، اعتبرت كما لو كانت شاهداً على برنامج سليمان الواسع في البناء .. و عندما تمت أعمال الكشف في تل جرزيل الذي قامت به جامعة تل أبيب و المدرسة البريطانية لعلم الآثار في القدس في تسعينيات القرن العشرين ، أخرج هذا الموقع الذي شيدته عائلة عمري خلال القرن التاسع عشر .. فخاراً مماثلاً للفخار الذي عثر عليه في المستويات السليمانية في مجدّو و حازورة .. مما أدى في السنوات الأخيرة ، إلى إعادة فحص ما يسمى بالمعمار السليماني" .
مملكة داود و سليمان :
حسب الرواية التوراتية ، فإن داود بن يسي من قبيلة يهودا ، كان يرعى الأغنام و يحسن العزف على العود ، و جاء ليعيش عند شاؤول ، و هو الذي خلفه في قيادة قبائل بني "إسرائيل" . و تتضمن الرواية التوراتية معلومات متناقضة عن هذا الملك . فنحن نجد داود و معه جيش مكون من 600 رجل يحاربون في صراع داخلي بين القبائل الإسرائيلية أو مع الفلسطينيين ، و فجأة نجد تفاصيل معارك كبيرة تخوضها جيوش منظمة في مواقع محصنة عديدة من أرض الهلال الخصيب.
لم يكن صدق الرواية التاريخية يهم الكهنة في شيء ، إذ كان هدف الرواة الأساسي من ادعاء هذه الانتصارات الجبارة هو حثّ "بني إسرائيل" على ترك عبادة الأصنام و العودة إلى ديانة موسى ، لكي ينصرهم ربهم على أعدائهم . و بحسب هذه الرواية ، مات داود تاركاً لخليفته سليمان إمبراطورية تمتد حدودها ما بين النيل و الفرات ، دون أن يعرف أحد من أين جاءت هذه الإمبراطورية ؟ .
و حتى هذه اللحظة ، لم يتمكن الأثريون من العثور على أي دليل يشي ر، صراحة أو كناية ، على مملكة داود و سليمان في فلسطين . و بينما تقول رواية سفر صموئيل الثاني ، و سفر الملوك الأول ، إن الملك داود أقام إمبراطورية تمتد بين النيل و الفرات ، أورثها لسليمان بعد موته ، فإن رجال الآثار لم يتمكنوا من العثور على ذكر واحد لأي من الملكين الإسرائيليين ، رغم وجود 300 موقع بأرض فلسطين تجري فيها البعثات الأثرية أعمال الحفر ، سواء في "إسرائيل" أو الضفة و القطاع . و أدى عدم ظهور أدلة أثرية تتفق مع قصص التوراة ، إلى الاعتقاد بأنها روايات أسطورية لا تعبّر عن الأحداث التاريخية . إذ يقول توماس تومسون أستاذ دراسات العهد القديم بجامعة كوبنهاغن الدنماركية ، إن الاعتقاد الذي كان سائداً حتى القرن التاسع عشر ذهب إلى اعتبار أن القصص التوراتية تمثل أحداثاً تاريخية حقيقية ، ثم تغير هذا الموقف تماماً الآن ، بعدما أظهرت نتائج الاكتشافات الأثرية عدم وجود أي أدلة تؤيد ما جاء في هذه القصص من أحداث و تواريخ "فليس هناك دليل من الآثار على وجود مملكة إسرائيلية متحدة أيام شاؤول و داود و سليمان ، كما لم ترد أية إشارة لهؤلاء الملوك في المصادر التاريخية" . و يعتقد تومسون أن "قصص التوراة تضمنت أحداثاً تاريخية قديمة لشعوب و ممالك أخرى في الشرق الأوسط ، جرى اقتباسها لتكون جزءاً من تاريخ مملكة بني "إسرائيل" ، بل إنه يذهب إلى أن دولة يهودا التوراتية لم تظهر إلا منذ القرن الخامس قبل الميلاد ، في زمن الحكم الفارسي ، و لم يكن لهذه الدولة أية علاقة بدولة "إسرائيل" التي قامت حول السامرة قبل ذلك بأربعة قرون و دمّرها الآشوريون عام 722 ق. م ، و نقلوا سكانها إلى مناطق أخرى ، و أحلوا أقواماً عربية مكانهم .
تحكي لنا قصة سليمان – و يدعى (شلما) و (شلومو) في العبرية - أنه جلس "على كرسي داود أبيه و تثبت ملكه جداً .. و صاهر سليمان فرعون ملك مصر و أخذ بنت فرعون ، و أتى بها إلى مدينة داود إلى أن أكمل بناء بيته و بيت الرب و سور أورشليم حواليها" . و بينما فشل الأثريون في العثور على أية بقايا للبنايات التي ورد ذكرها في قصة سليمان ضمن طبقات الأرض التي ترجع إلى القرن العاشر قبل الميلاد ، فإنهم عثروا على بقايا هذه البنايات نفسها في الشرائح التابعة لعصر أمنحتب الثالث قبل ذلك بأربعة قرون .
و يبدو أن كتبة الرواية التوراتية استعاروا بعض القصص المتعلقة بالإمبراطورية المصرية بين النيل و الفرات - قبل عصر سليمان بخمسة قرون – و نسبوها إلى ملكهم . و يلاحظ وجود تشابه بين هذه الروايات ، خصوصاً مع ما نعرفه عن تاريخ أمنحتب الثالث والد أخناتون . فقد كان أمنحتب الثالث يسيطر على معظم أجزاء العالم المعروف في زمانه ، و امتدت حدوده شمالاً عبر نهر الفرات في جنوب آسيا الصغرى ، و جنوباً عند شلال النيل الرابع وسط السودان في أعماق أفريقيا ، رغم أنه لم يخض معركة حربية واحدة في حياته ، لأن أجداده من ملوك الأسرة 18 أسسوا تلك الإمبراطورية . و عندما توفي تحتمس الرابع ، والد أمنحتب الثالث ، كانت الأمور قد استقرت للملك الصغير الذي تولى الحكم و هو لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره ، فلجأ إلى الديبلوماسية في علاقاته مع ملوك الإمبراطورية . و عمد أمنحتب الثالث إلى الزواج من أميرات ممالك الإمبراطورية و تبادل الهدايا مع الملوك ، خصوصاً الذهب الذي كانت مصر تحصل عليه بكثرة من مناجم أفريقيا ، لبناء علاقات صداقة مع الدول التابعة له .
و عندما جلس أمنحتب الثالث على عرش مصر ، كان الثراء قد وصل إلى درجة لم يصل إليها من قبل ، و لا هو وصل إليها في أي عصر لاحق ، و استطاع الملك الذي ساد السلام في عصره ، أن يستخدم هذا الثراء في البناء و المعمار سواء في مصر أو في بلاد سورية و كنعان ، حيث شيّد المعابد و القصور و المدن المحصنة ، و كان لوجود عدد كبير من أسرى الحروب في ذلك الزمان أثر فعال في ازدياد القوى العاملة التي استخدمت في أعمال قطع الحجارة و البناء .
القدس :
أيضاً تقول قصة العهد القديم ، إن داود بعدما صار ملكاً على قبائل "يهودا و إسرائيل" ، استولى على مدينة القدس عندما "ذهب الملك و رجاله إلى أورشليم إلى اليبوسيين سكان الأرض .. و أخذ داود حصن صهيون ، و هي مدينة داود .. و أقام داود في الحصن و سماه مدينة داود" . و لم نحصل على تفاصيل هذه القصة المنسوبة إلى داود في أي مصدر تاريخي و لم ترد الإشارة إلى داود نفسه في المصادر المصرية أو البابلية ، فكان من الطبيعي أن يحاول الأثريون في العصر الحديث العثور على الأدلة للتأكد من صحة هذا الجزء من القصة تاريخياً ، كما وردت عنه في سفر صموئيل الثاني من كتب العهد القديم . و مع أن عمليات البحث عن البقايا الأثرية القديمة في القدس ازدادت بشكل ملحوظ منذ وقوع هذه المدينة في أيدي السلطات الصهيونية في حزيران (يونيو) 1967 ، تبين أن لا وجود لمدينة و لا أسوار في الفترة التي تقول الرواية التوراتية بأن القدس كانت فيها عاصمة لداود و سليمان .
و كانت بعض المصادر التاريخية التي جاء بها ذكر أورشليم قد أوحت من قبل بوجود مدينة القدس المحصنة ، على الأقل منذ القرن الرابع عشر السابق للميلاد . فهناك ستة خطابات من بين رسائل العمارنة التي وجدت في مصر قبل نهاية القرن الماضي ، كتبها (عبدي خيبة) إلى الملوك المصريين و الذي وصف نفسه بأنه كان "حاكم متاتي (أرض) أورشليم" . و استناداً إلى هذه الرسائل ، قال المؤرخون بوجود مدينة كبيرة في منطقة القدس خلال حكم الملك إخناتون و أمنحتب الثالث ، في القرن الرابع عشر قبل الميلاد . و جاءت نتائج الكشف الأثري الأخير ، متعارضة تماماً مع هذا الاعتقاد ، و لم يعثر على بقايا أية مدينة قديمة في موقع القدس ترجع إلى تلك الفترة الزمنية . و يبدو الآن أن أورشليم هذه لم تكن مدينة سكنية ، و إنما كانت مزرعة أقيمت عندها نقطة للحراسة العسكرية لتأمين الطريق المؤدي إلى بيت شان (بيسان) في الشمال . و بحسب ما ذهب إليه العالم الدنماركي تومسون ، فإن عدد سكان منطقة أورشليم في عصر داود كان أقل من خمسة آلاف ، مما يصعب معه القول إنها كانت عاصمة لإمبراطورية كبيرة ، و هو يرى أن علاقة اليهود بالقدس لم تبدأ إلا منذ القرن الرابع قبل الميلاد فقط .